فصل: (فرع: اختلفا في قيمة الشقص فيحلف)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: ادعاء أحد الشريكين ابتياع نصيب الغائب المودع]

وإن كانت دار في يد رجلين، نصفها ملك لأحدهما، ونصفها الآخر لغائب، وهو في يد الآخر وديعة، فادعى المالك على المودع: أنه ابتاع النصف من الذي أودعه إياه، وأنه يستحق أخذه بالشفعة، وقال المدعى عليه: ما ابتعته، وإنما هو وديعة، فإن لم يكن للمدعي بينة.. فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وإن كان مع المدعي بينة، فأقامها.. ثبتت الشفعة.
وإن أقام كل واحد منهما بينة بما ذكره.. قال المزني: قضيت له بالشفعة؛ لأن الإيداع لا ينافي البيع؛ لأنه يمكن أن يكون أودعه أولا، ثم ابتاعه منه.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه إنما يمكن إذا كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة، أو كانتا مؤرختين وبينة الوديعة متقدمة، فأما إذا كانتا مؤرختين وتاريخ البيع سابق.. كان متنافيا.
قال أصحابنا: لا تتنافيان أيضا؛ لجواز أن يكون البائع غصبها بعد البيع، ثم ردها بلفظ الإيداع، أو ردها مطلقا، فظن الشاهدان أنها وديعة.
قال الشيخ أبو حامد: ويحتمل أن يكون البائع أمسك الشقص على استيفاء الثمن، ثم أودعه المشتري، فصح إيداعه، ولا يكون ذلك إقباضا عن البيع، ألا ترى أنه لو تلف كان من ضمان البائع؟
قال المزني في (الجامع الكبير): ولو أقام الشفيع البينة بالشراء، وأقام من بيده الشقص البينة: أنه ورثها.. تعارضت البينتان؛ لأن الشراء ينافي الميراث، فتكون على قولين:
أحدهما: تسقطان.
والثاني: تستعملان، على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال أبو العباس: فإن شهدت بينة الإيداع: أنه أودعه ما هو يملكه، وبينة الشراء مطلقة.. كانت بينة الإيداع أولى؛ لأنها صرحت بالملك، ويراسل الغائب، فإن
قال: هي وديعة.. بطلت بينة الشراء بالملك، وإن قال: لا ملك لي فيها.. قضي ببينة الشراء.
قال ابن الصباغ: وهذا ينبغي إذا كانت بينة الإيداع متأخرة، فإن صرحت بينة الشراء بالملك، وأطلقت بينة الإيداع.. فبينة الشراء أولى.

.[فرع: ادعاء الوكيل شراء شقص موكله]

إذا كانت الدار بين اثنين، وأحدهما غائب، ونصيبه في يد وكيله، فقال الوكيل: قد اشتريته منه.. فهل للحاضر أخذه منه بالشفعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن إقرار الوكيل لا يقبل في حق موكله، فيكتب الحاكم إلى البلد الذي فيه الموكل، فيسأله عن ذلك.
والثاني: له أخذه بالشفعة، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه أقر بحق له مما في يده، ويذكر الحاكم ذلك في السجل، وينتظر الغائب، فإن قدم وصدقه.. فلا كلام، وإن أنكر، فإن قامت عليه بينة.. بطل إنكاره، وإن لم تقم عليه بينة.. حلف: أنه ما باعه، ويرد عليه النصيب، وأجرة مثله، وأرش نقص إن حدث به، وله أن يرجع به على الوكيل، أو على الشفيع.
فإن رجع على الشفيع.. لم يرجع به الشفيع على الوكيل؛ لأن التلف حصل بيده، وفيه وجه آخر: أنه يرجع عليه؛ لأنه غره. وإن رجع على الوكيل.. رجع به الوكيل على الشفيع.

.[مسألة: ادعاء كل من الشريكين ابتياع نصيب شريكه]

إذا كانت دار بين رجلين، فادعى كل واحد منهما على شريكه: أنه ابتاع حصته، وأنه يستحق عليه أخذه بالشفعة.. رجع إلى أيهما سبق ملكه إليهما، متى ملكا
فإن قالا: ملكناها في وقت واحد.. قلنا: لا شفعة لأحدكما على الآخر؛ لأن الشفعة تثبت بملك سابق، وإن قالا: ملكناها في وقتين، وادعى كل واحد منهما: أن ملكه هو السابق.. فلا يخلو: إما أن يكون مع أحدهما بينة دون الآخر، أو مع كل واحد منهما بينة، أو لا بينة مع أحدهما.
فإن كان مع أحدهما بينة تشهد له بأن ملكه سابق، وأن الآخر ملكه متأخر، ولم يكن مع الآخر بينة.. قضي بالشفعة للذي شهدت له البينة: أن ملكه سابق.
وإن كان مع كل واحد منهما بينة.. فإن كانتا مؤرختين تأريخا واحدا، مثل: أن تشهد بينة كل واحد منهما: أنه اشترى نصيبه في وقت معين من يوم معلوم.. لم يستحق أحدهما على الآخر شفعة؛ لأن الشفعة تستحق بالملك السابق، ولم يثبت أن ملك أحدهما سابق. وإن شهدت بينه أحدهما: أنه اشترى نصيبه في رمضان، وشهدت بينة الآخر: أنه اشترى نصيبه في شوال ثبتت الشفعة للمشتري في رمضان في الشقص المشترى في شوال. وإن كانت بينة أحدهما مطلقة، والأخرى مؤرخة.. فهو كما لو لم تكن بينة. وإن كانتا متعارضتين، مثل: أن شهدت بينة كل واحد منهما، بأن ملكه سابق لملك الآخر.. ففيهما قولان:
أحدهما: تتعارضان وتسقطان، ويصير كما لو لم يكن لأحدهما بينة.
والثاني: تستعملان، وفي الاستعمال ثلاثة أقوال:
أحدها: يقرع بينهما. فعلى هذا: من خرجت له القرعة.. ثبتت له الشفعة.
والثاني: يوقفان، فتوقف الشفعة هاهنا على ما يبين.
والثالث: يقسم بينهما، فإن كان نصيباهما متساويين.. فلا فائدة في القسمة، وإن كانا مختلفين، مثل: أن كان لأحدهما الثلث، وللآخر الثلثان.. قسمت الدار بينهما نصفين.
وإن لم تكن لأحدهما بينة، فإن ترافعا إلى الحاكم، وسبق أحدهما بالدعوى.. لزم المدعى عليه الإجابة، فإذا أنكره.. فالقول قول المنكر مع يمينه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي، واليمين على المنكر».
وإن قال المدعى عليه قبل إجابته عن دعوى المدعي: أنا استحق عليك الشفعة.. قيل له: قد سبقك بالدعوى، فأجب أولا عن دعواه، ثم ادع عليه إن شئت، فإن حلف المدعى عليه، ثم ادعى على المدعي: أنه يستحق أخذ نصيبه بالشفعة.. فتجاب دعواه، ثم القول قول المدعى عليه مع يمينه؛ لما ذكرناه. وإن أقر المدعى عليه أولا بالشفعة للمدعي، أو نكل المدعى عليه عن اليمين، وحلف المدعي الأول.. ثبتت له الشفعة في نصيب المدعى عليه، فإن أخذه بالشفعة، ثم أراد المدعى عليه أولا أن يدعي على المدعي: أنه يستحق أخذ نصيبه بالشفعة.. لم تصح دعواه؛ لأنه لم يبق له ملك يستحق به الشفعة.

.[مسألة: اختلاف الشفيع والمشتري في الثمن]

وإن اختلف الشفيع والمشتري في الثمن، فقال المشتري: اشتريته بألف، وقال الشفيع: بل اشتريته بخمسمائة، فإن كان مع أحدهما بينة.. قضي له بها، ولم يسمع قول الآخر، ويقبل في ذلك شهادة رجلين، وشهادة رجل وامرأتين، وشهادة رجل ويمين المدعي؛ لأنها بينة على المال، ولا تقبل في ذلك شهادة البائع؛ لأنه إن شهد للمشتري.. لم يقبل؛ لأنه يشهد في حق نفسه، ولأنه يريد إثبات الثمن لنفسه، وإن شهد للشفيع.. لم يقبل؛ لأنه يثبت لنفسه منفعة؛ لأنه ينقض بذلك الدرك عن نفسه إن خرج الشقص مستحقا. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي في (الإبانة) إذا شهد البائع للشفيع، فإن كان قبل قبض الثمن.. قبلت شهادته، وإن كان بعد قبض الثمن.. لم تقبل.
وإن أقام كل واحد منهما بينة بما ذكره.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني -: أن بينة المشتري تقدم، كما تقدم بينة الداخل على بينة الخارج.
والثاني - وهو قول القاضي أبي حامد، واختيار ابن الصباغ -: أنهما يتعارضان؛ لأن بينة الداخل إنما تقدم إذا تنازعا اليد، وهاهنا تنازعا فيما وقع عليه العقد، ولا مزية لإحداهما على الأخرى، فتعارضتا.
قال: فعلى هذا: تسقطان ويصيران كما لو لم يكن مع واحد منهما بينة.
قال: ومن أصحابنا من قال: يقرع بينهما، وهل يحلف من خرجت له القرعة؟ فيه قولان، يأتي ذكرهما في موضعهما.
وإن لم يكن مع أحدهما بينة.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في قوله، وهو أعلم به، ولأن الملك قد ثبت له، والشفيع يريد انتزاعه منه، فلم ينتزع منه إلا بما يقر به.

.[فرع: اختلفا في قيمة الشقص فيحلف]

فإن قال المشتري: اشتريت الشقص بألف، فقال الشفيع: لا أعلم هل اشتريته بألف، أو أقل.. فهل للشفيع أن يحلف المشتري؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له أن يحلفه حتى يصرح: أنه أقل من ألف؛ لأن اليمين لا تجب بالشك.
والثاني: له أن يحلفه؛ لأن المشتري لا يملك ما ادعاه بمجرد الدعوى.
فإن قال المشتري: اشتريته بألف، فقال الشفيع: لم تشتره بألف، وإنما اشتريته بدون الألف.. فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه أعلم بالعقد، فإن نكل عن اليمين، وردت اليمين على الشفيع.. لم يحلف حتى يتبين قدر الثمن.

.[فرع: قبول قول مشتري الشقص مع يمينه]

وإن طالب الشفيع بالشفعة، فقال المشتري: لا أعلم قدر الثمن الذي اشتريت به، وادعى الشفيع: أنه يعرفه.. قال الشافعي: (فالقول قول المشتري مع يمينه، فإذا حلف.. سقطت الشفعة). وبه قال عامة أصحابنا.
وقال أبو العباس: يقال للمشتري: إما أن تذكر قدر الثمن، وإلا.. جعلناك ناكلا، ورددنا اليمين على الشفيع؛ ليحلف على مبلغ الثمن، ويستحق أخذ الشقص بما حلف عليه، كما لو ادعى رجل على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: لا أدري قدر ما لك علي.. فإنه يقال له: إما أن تبين قدر ما له عليك، وإلا جعلناك ناكلا، ورددنا اليمين على المدعي، فحلف واستحق. وهذا ليس بصحيح؛ لأن المشتري قد يكون صادقا بأن يشتري بثمن معلوم، وينسى قدره، وقد يشتري بثمن جزاف، فيكون البيع صحيحا، فإذا حلف المشتري.. كان الثمن مجهولا في حق الشفيع، ولم يصح أخذه للشفعة به. ويخالف ما ذكره أبو العباس؛ لأن هناك لم يجب عن الدعوى؛ فلذلك أمرناه بالإجابة عنها، وإلا.. جعلناه ناكلا. وهاهنا قد أجاب المشتري عن الدعوى؛ لأن الشفيع ادعى الشراء، وأنه يستحق أخذه بالشفعة، وقد أقر له المشتري بذلك، إلا أنه ادعى الجهالة بقدر الثمن، وقد يمكن صدقه.
وإذا لم يعلم قدر الثمن لم تثبت له الشفعة. فوازنه من هذه المسألة: أن يقول المشتري: لا أعرف أني اشتريت الشقص، أو لا أعرف أن لك الشفعة.. فيقال له هاهنا: أجب عن الدعوى، وإلا.. جعلناك ناكلا.

.[فرع: اختلفا في قيمة العرض بدل الشقص]

وإن اشترى الشقص بعرض، وتلف العرض، واختلفا في قيمته.. فالقول قول المشتري مع يمينه في قدر قيمته؛ لأن الشقص ملك له.. فلا ينتزع إلا بما يقر به.

.[مسألة: قبول قول المشتري]

وإن أقر المشتري: أنه اشترى الشقص بألف، فأخذ منه الشفيع بالألف، ثم قال البائع: إنما بعته إياه بألفين.. وصادقه المشتري على ذلك، أو أنكره وأقام عليه البائع البينة بذلك.. لزم الألفان على المشتري، ولا يلزم ذلك على الشفيع.
وقال أبو حنيفة: (إذا قامت البينة بذلك.. لزم ذلك على الشفيع).
دليلنا: أن المشتري إذا أقر: أنه اشتراه بألف.. تعلق بذلك حق الشفيع، فإذا رجع المشتري.. لم يقبل في حق الشفيع، كما لو أقر له بحق، ثم رجع عنه. وأما البينة: فلأنه تقدم إقراره بتكذيبها، ولأنه يعترف أن البينة ظلمته، فلا يرجع على غير من ظلمه.

.[فرع: قبول قول البينة والشهادة على عفو الشفعة]

وإن ادعى المشتري على الشفيع: أنه عفا عن الشفعة، وأنكر الشفيع، فإن كان هناك بينة.. حكم بها، ويقبل في ذلك شهادة رجلين، ورجل وامرأتين، ورجل ويمين؛ لأن المقصود به المال، وإن لم تكن بينة.. فالقول قول الشفيع مع يمينه؛ لأن الأصل عدم العفو.
فإن شهد عليه البائع بالعفو.. فحكى ابن الصباغ عن ابن القفال: أنه قال: إن شهد بذلك قبل قبض الثمن من المشتري.. لم تقبل شهادته؛ لأنه يجر بهذه الشهادة
إلى نفسه نفعا، وهو أن يفلس المشتري، فيرجع الشقص إليه، وإن كان بعد أن قبض الثمن من المشتري.. قبلت شهادته؛ لأنه لا يجر بها إلى نفسه نفعا، ولا يدفع بها ضررا.
وإن شهد السيد على مكاتبه بالعفو عن الشفعة.. قبلت شهادته؛ لأن ذلك شهادة عليه. وإن شهد بالشراء فيما لمكاتبه فيه الشفعة.. قال القاضي أبو الطيب في (المجرد): قبلت شهادته.

.[فرع: قبول شهادة بعض الشركاء لأجنبي بعفو شريكهم عن الشفعة]

وإن كانت دار بين أربعة، فباع أحدهم نصيبه من أجنبي، فادعى المشتري على أحدهم: أنه عفا عن الشفعة، وشهد عليه شريكاه بالعفو، فإن كانا قد عفوا عن الشفعة.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما لا يجران بها إلى أنفسهما نفعا، ولا يدفعان عن أنفسهما بها ضررا، وإن كانا لم يعفوا.. لم تقبل شهادتهما؛ لأنهما يجران إلى أنفسهما استحقاق جميع الشقص.

.[فرع: القول قول ورثة المشتري مع أيمانهما]

ذكر ابن الحداد: إذا ثبتت له الشفعة في شقص، فمات قبل أن يتمكن من الأخذ، وله وارثان، فادعى المشتري: أنهما قد عفوا عن الشفعة، ولا بينة له.. فالقول قولهما مع أيمانهما، فإن حلفا.. سقطت دعوى المشتري، وأخذا الشقص بالشفعة. وإن نكلا عن اليمين.. حلف المشتري، وسقطت شفعتهما. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر.. لم يحلف المشتري مع نكول الناكل منهما؛ لأنه لا يستفيد بيمينه شيئا؛ لأنه إذا ثبت بيمينه عفو الناكل.. أخذ الحالف جميع الشقص، فلا معنى ليمين المشتري.
فعلى هذا: يرجع إلى الشريك الحالف، فإن صدق شريكه أنه لم يعف.. كانت الشفعة بينهما. وإن ادعى أن شريكه قد عفا.. حلف يمينا بالله: أن شريكه قد عفا، وأخذ جميع الشقص، وإن لم يحلف الشريك الحالف على عفو شريكه.. كان الناكل على حقه من الشفعة؛ لأن الشفعة قد ثبتت له، ولا يثبت عفوه إلا ببينة، أو إقرار منه، أو بيمين المدعي مع نكول الشفيع، فإذا لم يوجد شيء من ذلك.. كان على حقه من الشفعة، كما لو ادعى على رجل مالا، فاعترف به المدعى عليه، وادعى على المقر له: أنه أبرأه منه.. فالقول قول المقر له مع يمينه: أنه لم يبرئه، فإن حلف.. ثبت الحق، ولم تثبت البراءة، وإن نكل المقر له عن اليمين ردت اليمين على المقر المدعي للبراءة فإن حلف ثبتت البراءة وإن لم يحلف.. وجب عليه ما أقر به فكذلك هاهنا مثله.

.[مسألة: ثبوت حق الشفعة بالبينة واليمين]

إذا كانت دار بين رجلين، فادعى أحدهما: أنه باع نصيبه من زيد ولم يقبض منه الثمن، وصدقه شريكه، وأنكر زيد الشراء، فإن كان مع البائع بينة بالبيع.. وجب على زيد تسليم الثمن، وأخذ الشفيع الشقص منه بالشفعة. وإن لم يكن مع البائع بينة.. فالقول قول زيد مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الشراء، وهل تثبت للشريك الشفعة؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال المزني، وأكثر أصحابنا: تثبت له الشفعة. وهو قول أبي حنيفة، وأحمد.
ومن أصحابنا من قال: لا تثبت له الشفعة. وحكي ذلك عن أبي العباس، وهو قول مالك.
ووجهه: أن الشفعة فرع على البيع، فإذا لم يثبت البيع.. لم تثبت الشفعة.
والأول أصح؛ لأن البائع أقر للمشتري بالشراء، وللشفيع بالشفعة، فإذا بطل حق المشتري برده.. لم يبطل حق الشفيع، كما لو أقر لاثنين بحق، فكذبه أحدهم، وصدقه الآخر.
فإن قلنا: لا تثبت الشفعة.. فللبائع مخاصمة المشتري، وعرض اليمين عليه، فإن حلف.. سقطت الدعوى، وإن نكل.. حلف البائع. قال ابن الصباغ: ويثبت البيع والشفعة.
وإن قلنا: تثبت الشفعة.. نظر في البائع: فإن رضي بتسليم الشقص إلى الشفيع، وأخذ الثمن منه.. جاز، وكانت العهدة للشفيع في الشقص على البائع؛ لأنه منه أخذه، وإليه دفع الثمن.
وإن اختار البائع أن يطالب المشتري بقبض المبيع، وتسليم الثمن.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه يحصل له الثمن من الشفيع، فلا معنى لمخاصمته للمشتري.
فعلى هذا: يسلم الشقص إلى الشفيع، ويؤخذ منه الثمن، وتكون العهدة للشفيع على البائع.
فإن قيل: أليس لو ادعى على رجل دينا، فقال له رجل: أنا أدفع إليك الدين الذي تدعيه عليه، ولا تخاصمه، لم يلزمه قبوله؟ فلما الفرق على هذا؟
قال ابن الصباغ: فالفرق بينهما: أن عليه منة في قبول الدين من غير من هو عليه، بخلاف هذا.
والوجه الثاني: أن للبائع مخاصمة المشتري؛ لأنه قد يكون المشتري أسهل في المعاملة عند الرجوع بالعهدة.
فعلى هذا: لو حلف المشتري.. سقطت دعوى البائع عنه، ودفع الشقص إلى الشفيع، وأخذ منه الثمن، وكانت العهدة عليه للشفيع. وإن نكل المشتري عن اليمين.. حلف البائع: لقد باعه إياه، وثبت الشراء والشفعة، ولزم المشتري تسليم الثمن إلى البائع، وكانت العهدة للمشتري على البائع، والعهدة للشفيع على المشتري.
فإن كانت بحالها، فادعى البائع: أنه باع منه نصيبه، وقبض منه الثمن، وأنكر المشتري ذلك، وصدق الشفيع البائع.. فهل تثبت الشفعة هاهنا؟
من قال من أصحابنا في المسألة قبلها: لا تثبت الشفعة.. فهاهنا أولى أن لا تثبت.
ومن قال منهم في التي قبلها: تثبت الشفعة.. اختلفوا في هذه:
فذهب أكثرهم إلى: أن الشفعة لا تثبت هاهنا؛ لأنا لو قلنا: إنها تثبت.. لأدى إلى أن يأخذها الشفيع بغير عوض؛ لأنه لا يمكن دفع الثمن إلى المشتري؛ لأنه ينكر الشراء، ولا إلى البائع؛ لأنه قد أقر بالاستيفاء، فلم يبق إلا القول بأن الشفعة لا تثبت.
ومنهم من قال: تثبت الشفعة هاهنا؛ للمعنى الذي ذكرناه في المسألة قبلها.
فإذا قلنا بهذا: فما الذي يصنع بالثمن؟ فيه ثلاثة أوجه، مضى ذكرها:
أحدها: يقال للمشتري: إما أن تأخذه، وإما أن تبرئ منه.
والثاني: يقبضه الحاكم، ويحفظه إلى أن يدعيه أحدهما.
والثالث: يترك في ذمة الشفيع.

.[مسألة: في بيان ما يمنع الشفيع من أخذ الشقص بالشفعة]

وذلك في مواضع:
أحدها: أن يشتري رجل من رجل شقصا يساوي مائة بألف، ثم يأخذ البائع من المشتري عوضا يساوي مائة، فربما لا يرضى الشفيع أن يأخذ شقصا يساوي مائة بألف، إلا أن الغرر هاهنا على المشتري.
الموضع الثاني: أن يشتري بائع الشقص ممن يريد أن يبيع منه الشقص جارية تساوي مائة بألف، ثم يعطيه عن الألف الشقص، وهو يساوي مائة، فإن أراد الشفيع أن يشفع.. لزمه الألف، إلا أن الغرر هاهنا على بائع الشقص.
الموضع الثالث: أن يشتري منه شقصا يساوي مائة بألف، فيقبض منه مائة ويتفرقا، ويبرئه عن تسعمائة، وفي هذا غرر على المشتري.
الموضوع الرابع: إذا كان الشقص يساوي مائة، بأن يهب منه مالك الشقص نصفه، ويقبضه إياه، ثم يبيعه نصفه بمائة، فإن اختار الشفيع الشفعة.. أخذ نصف الشقص بمائة، وشاركه الموهوب أيضا بما وقعت فيه الهبة.
الموضع الخامس: أن يهب منه الشقص، ويهب منه الثمن.
الموضع السادس أن يشتريه بثمن جزاف شاهده، بأن يشتريه بملء كفيه دارهم، ولا يعلم عددها، فالبيع صحيح. فإذا طالبه الشفيع بالشفعة.. حلف المشتري: أنه لا يعلم قدر الثمن، ولم تثبت الشفعة على قول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وبالله التوفيق

.[كتاب القراض]

القراض والمضاربة: اسمان لمعنى واحد، وهو أن يدفع ماله إلى رجل ليتجر به، ويكون الربح بينهما على ما يشترطانه، ورأس المال لرب المال، وأهل الحجاز يسمون هذا العقد: قراضا. واختلف في اشتقاقه:
فقيل: إنه مشتق من القرض، وهو القطع، يقال: قرضت الطريق، أي: قطعتها، وقرض الفأر الثوب، أي: قطعه، فكأن رب المال اقتطع للعامل قطعة من ماله، أو قطع له قطعة من الربح.
وقيل: إنه مشتق من المساواة، ويقال: تقارض الشاعران: إذا ساوى كل واحد منهما الآخر بشعره في المدح أو الذم.
وحكي عن أبي الدرداء: أنه قال: (قارض الناس ما قارضوك، فإن تركتهم لم يتركوك). يريد: ساوهم.
فالمتقارضان متساويان؛ لأن أحدهما يبذل المال، والآخر يتصرف فيه، ويحتمل أن يكون ذلك لاشتراكهما في الربح. فالمقارض - بكسر الراء -: هو رب المال، و - بفتحها -: هو العامل.
وأما المضاربة: فاشتقاقها من الضرب بالمال، أو التقليب، وقيل: هو من ضرب كل واحد منهما في الربح بسهم، فالمضارب - بكسر الراء -: هو العامل؛ لأنه هو الذي يضرب في المال، ولم يشتق لرب المال منه اسم.
إذا ثبت هذا: فالقراض جائز، والأصل فيه: إجماع الصحابة، روي ذلك عن
عثمان، وعلي، وابن مسعود، وحكيم بن حزام.
وروى الشافعي: (أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب خرجا في جيش إلى العراق، فتسلفا من أبي موسى الأشعري - وهو عامل لعمر - مالا، فابتاعا به متاعا، وقدما به المدينة، فباعاه وربحا، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أكل الجيش أسلف كما أسلفكما؟ قالا: لا. فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا المال وربحه. فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله، وقال: يا أمير المؤمنين، لو هلك المال.. ضمناه، فلم لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين، لو جعلته قراضا؟ فقال: قد جعلته قراضا، فأخذ منهما رأس المال، ونصف الربح). فدل على أن القراض كان مستفيضا في الصحابة.
فإن قيل: إذا تسلفا المال من أبي موسى.. فكيف تحتجون بذلك على القراض؟
قلنا: موضع الحجة منه، قول الرجل لعمر: لو جعلته قراضا؟ ولم ينكر عليه عمر ولا غيره القراض.
فإن قيل: فإذا كانا قد تسلفا ذلك من أبي موسى وابتاعا به متاعا.. فقد ملكا المال وربحه.. فكيف ساغ لعمر أن يجعله قراضا، ويأخذ منهما نصف الربح؟
فتأول أصحابنا ذلك ثلاث تأويلات:
أحدها - وهو تأويل أبي العباس -: أن أبا موسى كان قد اجتمع عنده مال لبيت المال، وأراد أن ينفذه إلى المدينة، فخاف عليه حرز الطريق، فأقرضهما ذلك المال ليكون في ذمتهما أحوط لبيت المال، وقد ملكا المال وربحه، إلا أن عمر أراد أن ينفع المسلمين، فاستدعاهما، واستطاب أنفسهما في نصف الربح. وللعامل أن يفعل كفعل أبي موسى إذا خاف على المال.
و(الثاني): من أصحابنا من قال: كان الطريق آمنا، وإنما أقرضهما أبو موسى ليتقرب به إلى قلب عمر، فلما تصرفا في المال وربحا.. كان ذلك الربح كله ملكا للمسلمين، واستحقا أجرة المثل، وبلغت أجرتهما نصف الربح، ولهذا روي عن عمر: أنه قال: (كأني بأبي موسى وهو يقول: ابنا أمير المؤمنين).
و(الثالث): قال أبو إسحاق: كان أبو موسى أقرضها ذلك المال، ثم قارضهما بعد ذلك، فخلطا الربح الذي حصل منه، فاستطاب عمر أنفسهما عن نصف الربح.
والأول أصح؛ لأن الدراهم والدنانير لا يجوز إجارتهما للتجارة، فجوز عقد القراض عليهما، كالنخل لما لم يجز إجارتها لتستغل.. جاز عقد المساقاة عليها، والأرض لما جازت إجارتها لتستغل.. لم تجز عقد المخابرة عليها.